فصل: تفسير الآيات رقم (52- 53)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قال الله تعالى في هذه السورة‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ‏}‏ وقال في موضع آخر ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ وقال في هذه الآية ‏{‏ *** فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ‏}‏ أمّا في الأول فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتىِ ثَمَنًا قَلِيلاً‏}‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرِونَ‏}‏ لأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو جاحد والجاحد كافر‏.‏

وفي الثاني قال‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ لأن مَنْ جازو حدّ القصاص واعتبار المماثلة، وتعدى على خصمه فهو ظالم لأنه ظَلَمَ بعضهم على بعض‏.‏

وأمّا ها هنا فقال‏:‏ ‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ *** فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ‏}‏ أراد به معصيةً دون الكفر والجحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ‏}‏‏.‏

قدَّم تعريفه- صلى الله عليه وسلم- قصص الأولين على تكليفه باتباع ما أنزل الله عليه لئلا يسلك سبيل من تقدَّمه فيستوجب ما استوجبوه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ‏}‏‏.‏

لا تتملكك مودَّةُ قريبٍ أو حميمٍ، واعتنِقْ ملازمةَ أمرِ الله- تبارك وتعالى- بترك كل نصيبٍ لك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ يعني طريقةً وسُنَّة؛ أي أفردنا كلَّ واحدٍ منكم- معاشِرَ الأنبياء- بطريقة، وأمَّا أنت فلا يدانيك في طريقتك أحد، وأنت المقدَّمُ على الكافة، والمُفَضَّلُ على الجملة، ولو شاء الله لَسَوَّى مراتَبَكم، ولكن غاير بينكم ابتلاء، وفَضَّلَ بعضكم على بعض امتحاناً‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

مسارعة كل أحدٍ على ما يليق بوقته؛ فالعابدون تقدمهم من حيث الأوراد، والعارفون همتهم من حيث المواجد‏.‏

ويقال استباق الزاهدين برفض الدنيا، واستباق العابدين بقَطْعِ الهوى، واستباق العارفين بنفي المُنى، واستباق الموحدين بترك الورى، ونسيان الدنيا والعُقبى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ‏}‏‏.‏

قُمْ بالله فيما تحكم بينهم، وأقِمْ حقوقه فيما تؤخر وتقدم، ولا تلاحظ الأغيار فيما ‏(‏تُؤثِر‏)‏ أو تَذَر، فإن الكلَّ محوٌ في التحقيق‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

يعني ‏(‏عِظهم‏)‏ بلسان العلم فإنْ أبَوْا قبولاً فشاهِدْهم بعين الحكم‏.‏ ويقال‏:‏ أشْدُدْ عليهم باعتناق لوازم التكليف، فإن أعرضوا فعاينهم بعين التصريف؛ فإنَّ الحقِّ- سبحانه- بشرط التكليف يلزمهم؛ وبحكم التصريف يؤخرهم ويقدمهم، فالتكليف فيما أوجب، والتصريف فيما أوجد، والعبرة بالإيجاد والإيجاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

أيعودون في ظلمة الحجاب ووحشة الالتباس بعد ما سطع فَجْرُ العرفان، وطلعت شموسُ التحقيق، وانهتكت أستارُ الريب‏؟‏

ويقال أيطلبون منك أن تحيدَ عن المحبة المثلى، وقد اتضحت لك البراهين وتجلَّى اليقين‏؟‏

ويقال أيطمعون في استتار الحقائق في السرائر وقد تجلت شموس اليقين‏؟‏ ويقال أتحسبون أن ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ظلمة الشك لها سلطان، وقد متَتَعَ نهارُ الحقائق‏؟‏‏.‏ *** كلاَّ، فإن ذلك محال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

لا تجنحوا إلى الموالاة مع أعدائه- سبحانه- إيثاراً للسكون إلى الحظ، أو احتشاماً من القيام للحق، أو ركوناً إلى قرابة نَسَبٍ، أو استحقاقاً لمودة حميم، أو تهيباً من استيحاش صديق‏.‏ بل صمموا عقودكم على التبرِّي منهم بكل وجه فهم بعضهم أولياء بعض، والضدية بينكم وبينهم قائمة إلى الدين‏.‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ‏}‏ التحق بهم، وانخرط في سِلكهم، وعُدَّ في جملتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

يعني إن الذين سقمت ضمائرهم، وضعفت في التحقيق بصائرهم تسبق إلى قلوبهم مداراة الأعداء خوفاً من معاداتهم، وطمعاً في المألول من صحبتهم، ولو استيقنوا أنهم في أسر العجز وذل الإعراض ونفي الطرد لأَملَّوا الموعود من كفاية الحق، والمعهود من جميل رعايته، ولكنهم حُجِبُوا عن محل التوحيد؛ فتفرَّقوا في أودية الحسبان والظنون، وعن قريبٍ يأتيكم الفَرَجُ- أيها المؤمنون، وتُرْزَقُون الفتحَ بحسن الإقبال، والظفر بالمسؤول لسابق الاختيار، فيشعرون الندم، ويقاسون الألم، وأنتم ‏(‏تعلون‏)‏ رؤوسكم بعد الإطراق، وتصفوا لكم مَشارِب الإكرام، وتضيء بزواهر القرب مَشَارِقُ القلوب‏.‏ حينئذٍ يقول الذين آمنوا هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم يعاينون بأبصارهم ما تحققوه بالغيب في أسرارهم، ويَصِلُون من موعودهم إلى ما يوفي ويربو على مقصودهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِيِنِهِ فَسَوفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحبُّونَهُ‏}‏‏.‏

جعل صفة من لا يرتدُّ عن الدين أن اللهَ يحبه ويحبُّ الله، وفي ذلك بشارة عظيمة للمؤمنين لأنه يجب أن يُعْلَمَ أن من كان غير مرتد فإنَّ الله يحبه‏.‏ وفي إشارة دقيقة فإن من كان مؤمناً يجب أن يكون لله محباً، فإذا لم تكن له محبة فالخطر بصحة إيمانه‏.‏ وفي الآية دليل على جواز محبة العبد لله وجواز محبة الله للعبد‏.‏

ومحبة الحق للعبد لا تخرج عن وجوه‏:‏ إمَّا أن تكون بمعنى الرحمة عليه أو بمعنى اللطف والإحسان إليه، والمدح والثناء عليه‏.‏

أو يقال إنها بمعنى إرادته لتقريبه وتخصيص محله‏.‏

وكما أن رحمته إرادته لإنعامه فمحبته إرادته لإكرامه، والفرق بين المحبة والرحمة على هذا القول أن المحبة إرادة إنعامٍ مخصوصٍ، والرحمة إرادة كل نعمة فتكون المحبةُ أخصَّ من الرحمة، واللفظان يعودان إلى معنًى واحد فإن إرادة الله تعالى واحدة وبها يريد سائر مراداته، وتختلف أسماء الإرادة باختلاف أوصاف المتعلق‏.‏

وأمَّا محبة العبد لله- سبحانه- فهي حالة لطيفة يجدها في قلبه، وتحمله تلك الحالة على إيثارِ موافقة أمره، وتَرْكِ حظوظ نفسه، وإيثارِ حقوقه- سبحانه- بكل وجه‏.‏

وتحصل العبارة عن تلك الحالة على قدر ما تكون صفة العبد في الوقت الذي يعبَّر عنه؛ فيقال المحبة ارتياح القلب لوجود المحبوب، ويقال المحبة ذهاب المُحِبِّ بالكلية في ذكر المحبوب، ويقال المحبة خلوص المحب لمحبوبه بكل وجه، والمحبة بلاء كل كريم، والمحبة نتيجة الهمة فمن كانت همته أعلى فمحبته أصفى بل أوفى بل أعلى‏.‏

ويقال المحبة سُكْرٌ لا صحوَ فيه ودَهَشٌ في لقاء المحبوب يوجِب التعطُّلَ عن التمييز، ويقال المحبة بلاء لا يُرْجَى شفاؤه، وسقام لا يعرف دواؤه‏.‏ ويقال المحبة غريمٌ يلازمك لا يبرح، ورقيبٌ من المحبوب يستوفي له منك دقائقَ الحقوق في دوام الأحوال، ويقال المحبة قضية توجب المحبة؛ فمحبة الحق أوجبت محبة العبد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

لولا أنه يحبهم لما أحبهم، ولولا أنه أخبر عن المحبة فأنَّى تكون للطينة ذِكْرُ المحبة‏؟‏ ثم بيَّن الله تعالى صفة المحبين فقال‏:‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ‏}‏‏.‏ يبذلون المُهَجَ في المحبوب من غير كراهة، ويبذلون الأرواح في الذَبِّ عن المحبوب من غير ادخار شظية من الميسور‏.‏

ثم قال تعالى في صفتهم‏:‏ ‏{‏يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ‏}‏ أي يجاهدون بنفوسهم من حيث استدامة الطاعة، ويجاهدون بقلوبهم بقطع المنى والمطالبات، ويجاهدون بأرواحهم بحذف العلاقات، ويجاهدون بأسرارهم بالاستقامة على الشهود في دوام الأوقات‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ‏}‏ أي لا يلاحظون نُصْحَ حميم، ولا يركنون إلى استقلال حكم، ولا يجنحون إلى حظ ونصيب، ولا يزيغون عن سَنَنِ الوفاء بحالٍ‏.‏

ثم بيَّن- سبحانه- أن جيمع ذلك إليه لا منهم فقال‏:‏ و‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ متفضِّلٌ عليم بِمَنْ يَخُصَّ بذلك من عبيده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

الولي أي الناصر، ولا موالاة بين المؤمنين وبين أعداء الحق- سبحانه- فأعداء الحقِّ هم أعداء الدِّين‏.‏

و «إنما» حرفٌ يقتضي أن ما عداه بخلافه، وأعدى عدوِّك نَفْسُكَ- كما في الخبر- ومَنْ عادى نَفْسَه لم يخرج بالمخاصمة عنها مع الخلْق وبالمعارضة فيها مع الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

الفائزون على حظوظهم الذين هم خصم لِلحقِّ على أنفسهم لا خصم لأنفسهم على مولاهم، والغلبة بالحُجَّةِ والبرهان دون اليد‏.‏

ويقال من قام لله بصدق انخنس دونه كلُّ مُبْطِل‏.‏ ويقال إذا طلعت أنوار الحق أدبر ليل أهل الباطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

نَبَّهَهُم على وجوب التحيز عنهم والتميز منهم، فإن المخالف في العقيدة لا يكون موافقاً في الحقيقة‏.‏

ويقال‏:‏ أَمَرَهم بأن يلاحظوهم بعين الاستصغار كما لاحظوا دين المسلمين بعين الاستحقار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

الأَذانُ دعاءٌ إلى محلِّ النجوى، فَمَنْ تحقَّقَ بعلوِّ المحلِّ فسماعُ الأذانِ يوجب له روْحَ القلب واسترواح الروح، ومن كان محجوباً عن حقيقة الحال لاحَظَ ذلك بعين اللعب وأدركه بسمع الاستهزاء، وذلك حكمُ الله‏:‏ غايَرَ بين عباده على ما يشاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

ما لنا عندكم عيبٌ إلا أننا تحققنا أننا محو في الله وأنَّ الكائنات حاصلة بالله ولا نتقفى أثراً سوى لله في الله، وهذا- واللهِ- عيبٌ زائلٌ، ونقصٌ ليس له- في التحقيق- حاصل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏‏}‏

يعني أخسُّ من المذكورين قَدْراً، وأقل منهم خطراً من سقط عن عين الله فأذلَّة، وأبعده عن نعت التخصيص فأضلَّه، ومنعه عن وصف التقريب وأبعده، وحجبه عن شهود الحقيقة وطرده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

أظهروا الصدق، وفي التحقيق نافقوا، وافتضحوا من حيث أوهموا ولبَّسُوا؛ فلا حالُهم بقيت مستورة، ولا أسرارهم كانت عند الله مكبوتة، وهذا نعتُ كل مبطل‏.‏ وعند أرباب الحقائق أحوالهم ظاهرة في أنوار فراستهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

تَملكتْهُم الأطماعُ فستهوتهم في متاهات العناء، وذلك نعت كل ‏(‏طالع‏)‏ في غير مطمع؛ ذُلٌّ حاضر، وصَغَارٌ مستولٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

الربانيُّ من كان لله وبالله؛ لم تبق منه بقية لغير الله‏.‏

ويقال الربّانيُّ الذي ارتقى عن الحدود‏.‏

والربانيُّ مَنْ توقَّى الآفات ثم ترقَّى إلى الساحات، ثم تلقَّى ما كوشِفَ به من زوائد القربات، فخلا عن نفسه، وصفا عن وصفه، وقام لِرَبِّه وبربِّه‏.‏

وقد جعل الله الربانيين تالين للأنبياء الذين هم أولو الدِّين، فهم خلفاءٌ ينهون الخلْقَ بممارسة أحوالهم أكثر مما ينهونهم بأقوالهم، فإِنهم إذا أشاروا إلى الله حقق الله ما يُؤمِنُون إليه، وتحقق ما علقوا هممهم به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

صغَّر سوء قالة الموحِّدين- في اغتياب بعضهم لبعض بعد ما كانوا بالتوحيد قائلين وبالشهادة ناطقين- بالإضافة إلى ما قاله الكفار من سوء القول في الله؛ يعني أنهم وإن أساءوا قولاً فلقد كان أسوأ قولاً منهم مَنْ نَسبَنَا إلى ما نحن عنه مُنَزَّهٌ، وأَطلق في وصفنا ما نحن عنه مُقدَّسٌ‏.‏

ثم إن الحق- سبحانه قال‏:‏ ‏{‏غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا‏}‏ فلا ريح الصدق يشمون، ولا نَفَساً من الحقِّ يجدون‏.‏

ثم أثنى على نفسه فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ أي بل قدرته بالغة ومشيئته نافذة، ونعمته سابغة وإرادته ماضية‏.‏

ويقال ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ أي يرفع ويضع، وينفع ويدفع، ولا يخلو أحدٌ عن نِعَمِ النفع وإن خلا عن نعم الدفع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏‏}‏

إنما وعدهم الغفرانَ بشرط التقوى‏.‏ ودليل الخطاب يقتضي أنه لا يغفر لمن لا يتق منهم‏.‏

وقال لظالمي هذه الأمة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏ ثم قال في آخر الآية‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 33‏]‏ أي أهل التقوى لأنه أهل المغفرة، فإِنْ تركتم التقوى فهو أهلٌ لأن يغفر‏.‏

ويقال لو أنهم راعوا أمرنا أصلحنا لهم أمرهم، ولكنهم وَقَفُوا فوُقِفُوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم‏}‏‏.‏

أي لو سلكوا سبيلَ الطاعة لوسَّعنا عليهم أسباب المعيشة وسهَّلنا لهم الحال حتى إن ضربوا بيمينٍ ما لقوا غيرَ اليُمْن، وإِنْ ذهبوا يعسْرةً ما وجدوا إلا اليُسْر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

المقتصد الواقف على حدِّ الأمر؛ لا يُقَصِّر فيُنْقِص، ولا يجاوزُ فيزيد‏.‏

ويقال المقتصدُ الذي تساوى في هِمَّتِه الفقدُ والوجودُ في الحادثات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَا أَيًّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ‏}‏‏.‏

لا تكتم شيئاً مما أوحينا إليك مُلاَحَظَةً لِغَيْرٍ، إذ لا غير- في التحقيق- إلا رسوم موضعة، وأحكام القدرة عليها جارية‏.‏

ويقال بَيِّنْ للكافة أنك سيِّدُ ولد آدم، وأنَّ آدم دون لوائك‏.‏

ويقال بلِّغْ ما أُنْزِلَ إليك أنِّي أغفر للعصاة ولا أبالي، وأردُّ مِنَ المطيعين مَنْ شِئْتُ ولا أُبالي‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

يحفظ ظاهرك من أن يَمَسَّكَ أذاهم، فلا يتسلط بعد هذا عليك عدوٌّ، أو يصون سِرَّك عنهم حتى لا يقع احتشامٌ منهم‏.‏

ويقال يعصمك من الناس حتى لا تغرق في بحر التوهم؛ بل تشاهدهم كما هُمْ؛ وجوداً بين طرفي العَدَم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

أي ليس انتعاشكم ولا نظام معاشكم، ولا قَدْركم في الدنيا والعُقبى، ولا مقداركم ولا منزلكم في حال من حالاتكم إلا بمراعاة الأمر والنهي، والمحافظةِ على أحكام الشرع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

بَيَّنَ أنهم- وإنْ تجنَّسَتْ أحوالهم- فبعدما تجمعهم أصولُ التوحيد فلهم الأمانُ من الوعيد، والفوزُ بالمزيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ‏(‏70‏)‏ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

داروا مع الهوى فوقعوا في البلاء‏.‏ ومِنْ أمارات الشقاء الإصرارُ على متابعة الهوى، وحسبوا ألا تكون فتنة، فعموا وصموا‏.‏ واغتروا بطول الإمهال فأصروا على قبيح الأعمال، فلما أَخَذَتْهم فجاءةُ الانتقام لم ينفعهم الندم، وبَرَّحَ بهم الألم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏72‏)‏‏}‏

سَقِمَتْ بصائرهم والتبست عليهم أمارات الحدوث، فخَلَطُوا في عقائدهم استحقاقَ أوصافِ القِدَمِ بنعوت الحدوث‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

بلغ الخذلانُ بهم حداً أَنْ كابروا الضرورة فحكموا للواحد بأنه ثلاثة، ولا يخفى فسادٌ هذا على مجنونٍ‏.‏‏.‏ فكيف على عاقل‏؟‏‏!‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لم يُغْلِقُ بابَ التوبة عليهم- مع قبيح أقوالهم، وفساد عقائدهم- تضعيفاً لآمال المؤمنين بخصائص رحمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

مَنْ اشتملت عليه الأرحامُ، وتناوبته الآثار المتعاقبة أنَّى يليق بوصف الإلهية‏؟‏

ثم مَنْ مَسَّتْه الحاجةُ حتى اتصف بالأكل وأصابته الضرورةُ إلى أن يَخْلُصَ من بقايا الطعام فَأَنَّى يليق به استيجابُ العبادة والتسميةُ بالإلهية‏؟‏

انظر- يا محمد- كيف نزيد في إيضاح الحجة وكيف تلبَّس عليهم سلوكُ المحجة‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏76‏)‏‏}‏

تعليقُ القلوب- بدون الرب- في استدفاع الشر واستجلاب الخير تمحيق للوقت فيما لا يُجْدِي، وإذهابٌ للعمر فيما لا يُغْني؛ إذ المتفردُ بالإيجاد بريءٌ عن الأنداد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏77‏)‏‏}‏

التعمقُ في الباطل قطعٌ لآمال الرجوع؛ فكلما كان بُعْدُ المسافةِ مِنَ الحقِّ أتمَّ كان اليأسُ من الرجعةِ أوجبَ، ومُتَّبعُ الضلالة شرٌّ مِنْ مبتدِعها؛ لأن المبتدعَ يبني والمُتَّبع يُتِمُّ البناء، ومنْ به كمالُ الشرِّ شرُّ ممن منه ابتداءُ الشر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

أَمَر الأنبياء- عليهم السلام- حتى ذكروا الكفار بالسوء، وأمَّا الأولياء فخصَّهم بذكر نفسه فقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 43‏]‏ فلعنةُ الكفار بلسان الأنبياء، وذِكْرُ المؤمنين بالجميل بلسان الحقِّ- سبحانه، ولو كان ذلك ذِكْراً بالسوء لكان فيه استحقاقُ فضيلةٍ، فكيف وهو ذكرٌ بالجميل‏!‏‏؟‏ ولقد قال قائلهم‏:‏

لئن ساءني أَنْ تَلْقَني بمساءةٍ *** فقد سرَّني أَني خَطَرْتُ ببالِكا

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

الرضاءُ بمخالفة أمر الحبيب مُوَافَقَةٌ للمخالف، ولا أَنْفَةَ بعد تميز الخلاف‏.‏ والسكوتُ عن جفاءٍ تُعامَلْ به كَرَمٌ، والاغضاءُ عما يُقَال في محبوبك دناءةٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

شرُّ خِصال اللئام مطابقةُ مَنْ يضاد الصديق، فإذا كان سخط الله في موالاة أعدائه فرحمته- سبحانه- في معاداة أعدائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

صَرَّحَ بأنَّ مُوَافِقَ مَنْ نَاوَءَكَ آثَرَ التباعدَ عنك؛ إذ لو كانت بينكما شَعْرَةٌ غيرُ مُنْقَطِعَةٍ لأخلصت في موالاته، وأخلصَ في مصافاتك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

بَيَّنَ أَنَّ صفة العداوة وإن كانت تجمعهم فمعاداةُ بعضهم تزيد على بعض، وبقدر ما للنصارى من التَّرهُّب أثر فيهم بالمقاربة من أهل الحق؛ فإنهم وإن لم ينتفعوا بهم من حيث الخلاص فقد ذكرهم الله سبحانه- بمقاربة أهل الاختصاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

هذه صفة من نظر إليه الحق نظر القبول، فإذا قَرَعَتْ سَمْعَهُم دعوةُ الحقِّ ابتسمت البصيرة في قلوبهم، فسكنوا إلى المسموع لما وجدوا من التحقيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

وأي عذر لنا في التعريج في أوطان الارتياب، وقد تجلَّت لقلوبنا الحجج‏؟‏ ثم ما نؤمله من حُسْنِ العاقبة‏.‏‏.‏ متى بدونه يمكن أن نطلبه‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

لمَّا صَدَقَتْ آمالهم قابلها بالتحقيق، سُنَّةً منه- سبحانه- ألا يخيب راجيه، ولا يرد مؤمليه، وإنما علَّق الثواب على قولِ القلب الذي هو شهادةٌ عن شهوده، فأمّا النظر المنفردُ عن البصيرةِ فلا ثوابَ عليه ولا إيجاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏(‏هذا‏)‏ أثر الإعراض عن الأعداء في مقابلة أثر الإقبال على الأولياء معجَّلاً ومؤجلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

من أمارات السعادة الوقوفُ على حد الأمر؛ إنْ أَبَاحَ الحقُّ شيئاً قَبِلَه، وقابله بالخشوع، وإنْ خَطَرَ شيئاً وقف ولم يتعرض للجحود‏.‏

ومما أباحه من الطيبات الاسترواح إلى نسيم القرب في أوطان الخلوة، وتحريم ذلك‏:‏ إنْ اسْتَبدَلَ تلك الحالة بالخلطة دون العزلة؛ والعِشْرَةِ دون الخلوة، وذلك هو العدوان العظيم والخسران المبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

الحلال الصَّافي بأن يأكلَ العبدُ ما يأكلُ على شهوده- سبحانه- فإنْ نَزَلَتْ الحالةُ عن هذا فَعَلَى ذِكْرِ- سبحانه- فإنَّ الأكلَ على الغفلة حرامٌ في شريعة الإرادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

الإشارة منه إلى وقتٍ يغلب على قلبك التعطشُ إلى شيء من إقباله أو وصاله، فَتُقْسِمُ عليه بجماله أو جلاله أن يرزقَك شظيةً من إقباله، فكذلك في شريعة الرضا نوعٌ من اليمين، فيعفو عنك رحمةً عليك لضعف حالك‏.‏ والأوْلى الذوبان والخمود بحسن الرضا تحت ما يُجْرِي عليكَ من أحكامه في الردَّ والصد، وأن تؤثِرَ استقامتَك في أداء حقوقه على إكرامك بحسن تقريبه وإقباله، كما قال قائلهم‏:‏

أُريدُ وِصالَه ويريد هجري *** فأتركُ ما أريد لما يريد

ومِنَ اللغْوِ في اليمين- عندهم- ما يجري على لسانهم في حال غلبات الوجْد من تجريد العهد وتأكيد العقد، فيقول‏:‏

وحقِّك ما نظرتُ إلى سواكا، ولا قُلْت بغيرك‏.‏‏.‏ ولا حُلْتُ عن عهدك، وأمثال هذا‏.‏‏.‏‏.‏

وكلُّه في حكم التوحيد لغو، وعن شهود عهد الأحدية سهوٌ *** ومَنْ أنتَ في الرِّفعةِ حتى تَعْدِمَ نَفْسَكَ‏؟‏ وأين في الدار ديَّار حتى تقول بتركه أو تتحقق بوصله أو هجره‏؟‏ كلا *** بل هو الله الواحد القهار‏.‏

وكما أن الكفَّارة الشرعيةَ إمَّا عِتْق أو إطعامٌ وإما كسوةٌ فإن لم تستطع فصيام ثلاثة أيام‏:‏ فكفَّارتهم- على موجب الإشارة- إمّا بذل الروح بحكم الوَجْدِ، أو بذل القلب بصحة القصد، أو بذل النفس بدوام الجهد، فإن عجزتَ فإمساكٌ وصيامٌ عن المناهي والزواجر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

الخمر ما خامر العقول، والخمر حرام‏.‏

والإشارة فيه أنه يزيد نَفَادَ العقل بما يوجب عليه من الالتباس‏.‏

ومَنْ شَرِبَ من خمر الغفلة فسُكْرُه أصعب؛ فشرابُ الغفلةِ يوجب البعد عن الحقيقة‏.‏

وكما أن من سَكِرَ من خمر الدنيا ممنوعٌ عن الصلاةِ فمن سَكِرَ من خمر الغفلة فهو محجوبٌ عن المواصلاتِ‏.‏

وكما أنَّ مَنْ شَرِبَ من خمر الدنيا وجبَ عليه الحدُّ فكذلك من شَرِبَ شرابَ الغفلة فعليه الحَدُّ إذ يُضْرَبُ بسياط الخوف‏.‏

وكما أنَّ السكرانَ لا يُقامُ عليه الحدُّ ما لم يُفِقْ فالغافل لا ينجح فيه الوعظُ ما لم ينته‏.‏

وكما أن مفتاحَ الكبائر شربُ الخمر ‏(‏فالغفلة‏)‏، أصلُ كلِّ زَلَّة، وسببُ كلِّ ذِلَّة وبدءُ كل بُعْد وحجبة عن الله تعالى‏.‏

ويقال لم يحرم عليه الشرابَ في الدنيا إلا وأباح له شرابَ القلوب؛ فشراب الكبائر محظور وشراب الاستئناس مبذول، وعلى حسب المواجد حظى القوم بالشراب، وحيثما كان الشرابُ كان السكْر، وفي معناه أنشدوا‏:‏

فما ملَّ ساقيها وما ملَّ شارب *** عقار لحاظ كأسه يسكر اللُّبَّا

فصحوك من لفظي هو الوصل كله *** وسكرك من لحظي يبيح لك الشرابا

وحُرِّم الميسر في الشرع، وفي شريعة الحب القوم مقهورون؛ فمن حيث الإشارة أبدانهم مطروحة في شوارع التقدير، يطؤها كل عابر سبيل من الصادرين من عين المقادير، وأرواحهم مستباحة بحكم القهر، عليها خرجت القُرْعةُ من ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، قال تعالى ‏{‏فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 141‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

طال بُعْدُهم عن الحقيقة فقاسوا الهوان في مطارح الغربة، وصاروا سخرة للشيطان؛ فبقوا عن الصلاة التي هي محل النجوى وكمال الراحة، وفَسَدَتْ ذاتُ بَيْنِهِم بما تولد من الشحناء والبغضاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏92‏)‏‏}‏

كما كان العبد أعرفَ بربه كان أخوفَ من ربه، وإنما ينتفي الحذر عن العبد عند تحقيق الموعد بقوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏ وذلك عند دخول الجنة‏.‏ وحقيقةُ الحذر نهوضُ القلب بدوام الاستغاثة مع مجاري الأنفاس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

من حافظ على الأمر والنهي فليس للقمة يتناولها من الخطر ما يُضَايَق فيها، وإنما المقصود من العبد التأدبُ بصحبة طريقه سبحانه، فإذا اتَّقى الشِرْكَ تعَرّف، ثم اتقى الحرامَ فما تصرّف، ثم اتقى الشحَّ فآثر وما أسرف‏.‏

وقوله ‏{‏ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا‏}‏ يعني اتقوا المنع وأحسنوا للخلْق- وهذا للعموم‏.‏ ثم اتقوا شهود الخلْق؛ فأحسنُ الشهودِ الحقُّ، والإحسانُ أَنْ تعبد الله كأنك تراه- وهذا للخواص‏.‏

والله يحب المحسنين أعمالاً والمحسنين ‏(‏آمالاً‏)‏ والمحسنين أحوالاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏94‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏95‏)‏‏}‏

أباح الصيد لمن كان حَلاَلاً، وحرَّم الصيد على المُحْرِم الذي قَصْدهُ زيارة البيت‏.‏ والإشارة فيه أن من قصد بيتنا فينبغي أن يكون الصيد منه في الأمان، لا يتأذى منه حيوان بحال، لذا قالوا‏:‏ البَرُّ مَنْ لا يؤذي الذر ولا يُضْمِر الشر‏.‏

ويقال الإشارة في هذا أَنْ مَنْ قصَدَنا فعليه نَبْذُ الأطماعِ جملةً، ولا ينبغي أن تكون له مطالبة بحالٍ من الأحوال‏.‏

وكما أنَّ الصيدَ على المُحْرِم حرامٌ إلى أن يتحلل فكذلك الطلب والطمع والاختيار- على الواجِد- حرامٌ ما دام مُحْرِمًا بقلبه‏.‏

ويقال العارفُ صيدُ الحق، ولا يكون للصيد صيد‏.‏

وإذا قَتَلَ المُحرِمُ الصيدَ فعليه الكفَّارة، وإذا لاحظ العارفُ الأغيارَ، أو طمع أو رغب في شيءٍ أو اختار لَزِمَتْه الكفَّارة، ولكن لا يُكْتَفى منه بجزاء المثل، ولا بأضعاف أمثال ما تصرَّف فيه أو طمع، ولكن كفَّارته تجرده- على الحقيقة- عن كل غير، قليلٍ أو كثير، صغير أو كبير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

حُكْمُ البحرِ خِلافُ حُكْم البر‏.‏ وإذا غرق العبدُ في بحار الحقائق سَقَطَ حكمه، فصيد البحر مباح له لأنه إذا غرق صار محواً، فما إليه ليس به ولا منه إذ هو محوٌ، واللهُ غالِبٌ على أمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏97‏)‏‏}‏

حَكَمَ الله سبحانه- بأن يكون بيتُه- اليومَ ملجأ يلوذ به كل مُؤمِّل، ويستقيم ببركات زيارته كلُّ مائلٍ عن نهج الاستقامة، ويستنجح بابتهاله هنالك كلُّ ذي أَرَبٍ‏.‏

والبيتُ حَجَرٌ والعبد مَدَرٌ، والحق سبحانه ربط المدر بالحجر ليُعْلَمَ أنه الذي لم يَزَلْ لا سبيل إليه للحدثان والغير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏98‏)‏‏}‏

شديد العقاب للأعداء، غفور رحيم للأولياء‏.‏

ويقال شديد العقاب للخواص بتعجيل الحجاب إنْ زاغُوا عن الشهود لحظةً، غفور رحيم للعوام إن رجعوا إليه بتوبة وحسرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

المتفرِّدُ بالإلهية اللهُ‏.‏ والرسولُ- وإنْ جلَّ قَدْرُه- فليس عليه إلا البلاغ وهو أيضاً ‏(‏بتسييره‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ يَسْتَوِى الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ‏}‏‏:‏ الخبيث ما اكتسبه الغافل عن الله تعالى في حالة اكتسابه، والطيب ما اكتسبه على شهود الحق‏.‏

ويقال الخبيث ما لم يُخْرَجْ منه حقُّ الله تعالى، والطيب ما أُخْرجَ منه حقه- سبحانه‏.‏ ويقال الخبيث ما ادخرتَه لنفسك، والطيب ما قدَّمتَه لأمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏‏}‏

إذا أسبل عليكم ستر اللطف فلا تتعرضوا لعلم أُخْفِيَ عنكم، فيتنغَص ‏(‏بالتج‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏- عليكم- عَيْشُكم‏.‏

ويقال لا تتعرضوا للوقوف على محل الأكابر- حيث لا تستوجبون ذلك- فيسوءكم تقاصرُ رتبتك‏.‏

ويقال إذا بدا من الإعراض علم فاطلبوا له عندكم وجهاً من التفال ولا تطلبوا أسرار الباري، واركنوا إلى روْح المنى في استدفاع ما ظلكم ولا تبحثوا عن سر ذلك وراعوا الأمر مجملاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

يعني توهَّم قوم أنهم محرورون عن التأثر فيما يصادفهم في فجاءة التقدير، وذلك منهم ظَنٌّ، كما يقول بعضهم‏:‏

تبيَّن يومَ البيْن أنَّ اعتزامَه *** على الصبر من إحدى الظنون الكواذب

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

هذه أحكامٌ ابتدعوها، فردَّهم الحقُّ- سبحانه- عن الابتداع، وأمَرهم بحسن الاتِّباع، وأخبر أنَّ ما صدر من عاداتهم لا يُعَدُّ من جملة عبادتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

إذا هتفت بهم دواعي الحقِّ بالجنوح إلى وصف الصدق صَدَّهم عن الإجابة ما مرنوا عليه من سهولة التقليد، وإن أسلافهم الذين وافقوهم لم يكونوا إلاَّ في ضلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

يكفي للفقير أن يمشيَ وقد جُبِرَ بعضُ كَسْرِه، فأمَّا إذا ادَّعى التقدم أو الطمع في إنجادِ منْ سواه فمحال من الحدث والظن‏.‏

ويقال من يفرغ إلى غيره يتشاغل عن نفسه، ومن اشتغل بنفسه لم يتفرَّغ إلى غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

حكم هذه الآية كان ثابتاً في الشرع ونُسخ، وفي بيان التفسير تفصيلُه‏.‏

والنسخُ هو الإزالة، وذلك جائزٌ في العبادات‏.‏

ومعنى النسخ يوجد في سلوك المريدين؛ فهم في الابتداء فَرْضُهم القيام بالظواهر من حيث المجاهدات، فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شيء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أورادالظاهر، فهو كالنسخ من حيث الصورة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏‏.‏ واتصافهم بمراعاة القلوب أتمُّ بتأديبهم بأحكام المعاملات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏109‏)‏‏}‏

يكاشفهم بنعت الجلال فتنخنس فهومُهم وعلومُهم حتى ينطقوا بالبراءة عن التحقيق ويقولون‏:‏ ‏{‏لاَعِلْمَ لَنَا‏}‏، وهكذا تكون الحالة غداً‏:‏ مَنْ قال لشيءٍ، أو مَالَ يقولون‏:‏ «ما عبدناك حق عبادتك» والأنبياء يقولن‏:‏ ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

التذكيرُ بوجوه النعم يستخرج خلاصة الحُب والهيمان في المذكور وكلُّ وقتٍ للأحباب يمضي يصير لهم حديثاً يتلى من بعدهم‏:‏ إما عليهم وإمَّا عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

وإنما خصَّهم بالوحي إلهاماً وإكراماً لانبساط ضياء عيسى عليهم، وفي الأثر‏:‏ «هُمُ القومُ لا يَشْقَى بهم جليسُ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 113‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

طلبوا المائدةَ لتسكن قلوبهم بما يشاهدونه من عظيم الآية وعجيب المعجزة، فعُذِرُوا وأجيبوا إليها؛ إذ كان مرادُهم حصولَ اليقين وزيادةَ البصيرة‏.‏

ويقال كلٌ يطلب سُؤْله على حسب ضرورته وحالته، فمنهم من كان سكونه في مائدة من الطعام يجدها، ومنهم من يكون سكونه في ‏(‏فائدة‏)‏ من الموارد يَرِدُها، وعزيز منهم من يجد الفناء عن برهان يتأمله، أو بيان دليل يطلبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

شَتَّان بين أمة طلب لهم نبيُّهم سكوناً بإنزال المائدة عليهم، وبين أمة بدأهم- سبحانه بإنزال السكينة عليهم، من غير سؤال أحد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقال في صفتهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وفَرْقٌ بين مَنْ زيادةُ إيمانه بآياته التي تتلى عليهم وبين من يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تُبَاحُ لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

أجابه إلى سؤاله لهم، ولكن توعدهم بأليم العقاب لو خالفوا بعده لِيَعْلَمَ السالكون أَنَّ المراد إذا حصل، وأَنْ الكرامة إذا تحققت- فالخطر أشدُّ والحالُ من الآفة أقربُ، وكلما كانت الرتبة أعلى كانت الآفة أخفى، ومحن الأكابر إذا حلَّت جلَّت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏‏}‏

المراد من هذا السؤال إظهار براءة ساحته عما نسب إليه من الدعاء إلى القول بالتثليث، فهذا ليس خطاب تعنيف بل هو سؤال تشريف‏.‏

ثم إن عيسى- عليه السلام- حفظ أدب الخطاب فلم يُزَكِّ نَفْسَه، بل بدأ بالثناء على الحق- سبحانه- فقال‏:‏ تنزيهاً لك‏!‏ إنني أنزهك عما لا يليق بوصفك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ‏}‏ أي إني إن كنت مخصوصاً مِنْ قِبَلِكَ بالرسالة- وشرط النبوة العصمة- فكيف يجوز أن أفعل ما لا يجوز لي‏؟‏

ثم إني ‏{‏إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ‏}‏‏:‏ كان واثقاً بأن الحقَّ- سبحانه- عليم بنزاهته من تلك القالة‏.‏

‏{‏تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى‏}‏‏:‏ أي علمك محيطٌ بكل معلوم‏.‏

‏{‏وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ‏}‏ أي لا أطلع على غيبك إلا بقدر ما تُعَرِّفُني بإعلامك‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ‏}‏ الذي لا يخرج معلوم عن علمك، ولا مقدور عن حكمك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

ما دعوتُهم إلا لعبادتك، وما أمرتهم إلا لتوحيدك وتقديسك، وما دمت حياً فيهم كنت ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ على هذه الجملة، فلما فارقتُهم كان تصرفهم في قبضتك على مقتضى مشيئتك، فأنت أعلم بما كانوا عليه من وَصْفَي وفاقهم وخلافهم، ونِعَمَتَيْ اقتصادهم وإسرافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏‏}‏

بيَّن أن حكم المولى في عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، فقال إن تعذبهم يحسن منك تعذيبهم وكان ذلك لأنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي المُعِز لهم بمغفرتك لهم‏.‏

ويقال أنت العزيز الحكيم الذي لا يضركَ كُفْرُهم‏.‏

ويقال ‏{‏العَزِيزُ‏}‏ القادر على الانتقام منهم فالعفو ‏(‏عند‏)‏ القدرة سِمَةُ الكرمِ، وعند العجز أمارةُ الذُّل‏.‏

ويقال إن تغفر لهم فإنك أعزُّ من أن تتجمل بطاعة مطيعٍ أو تنتقص بِزِلَّةِ عاصٍ‏.‏ وقوله ‏{‏الحَكِيمُ‏}‏ ردٌّ على من قال‏:‏ غفران الشّركِ ليس بصحيح في الحكمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 119‏]‏

‏{‏قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً‏}‏‏.‏

مَنْ تَعَجَّل ميراثَ صدقه في دنياه من قبولٍ حصل له من الناس، أو رياسةٍ عقدت له، له أو نفع وصل إليه من جاهٍ أو مالٍ‏.‏ فلا شيء له في آجله من صواب صدقه، لأن الحقَّ- سبحانه- نصّ بأنَّ يومَ القيامة ينفع فيه الصادقين صدقهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ‏}‏‏.‏

ورضاءُ الحق- سبحانه- إثباتُ مَحَلّ لهم، وثناؤه عليهم ومدحُه لهم، وتخصيصهم بأفضاله وفنون نواله‏.‏ ورضاؤهم عن الحق- سبحانه في الآخرة وصولهم إلى مناهم؛ فهو الفوز العظيم والنجاة الكبرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 120‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لِلَّه مُلْكٌُ السَّمَاوَاتِِ والأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ‏}‏‏.‏

تَمَدَّحَ لحقُّ- سبحانه- بقدرته القديمة الشاملة لجميع المقدورات، الصالحة لإيجاد المصنوعات، ولم يتجمل بإضافة غيرٍ إلى نفسه من اسمٍ أو أثرٍ، أو عينٍ أو طلل‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

من الإبعاد والإسعاد، والصد والرد، والدفع والنفع، والقمع والمنع‏.‏

سورة الأنعام

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

بدأ الله- سبحانه- بالثناء على نفسه، فحمد نفسه بثنائه الأزليّ وأخبر عن سنائه الصمدي، وعلائه الأحدي فقال‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الَّذِى خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ‏}‏‏:‏ «فالذي» إشارة و‏{‏خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ‏}‏ عبارة‏.‏ استقلت الأسرارُ بسماع «الذي» لتحققها بوجوده، ودوامها لشهوده، واحتاجت القلوب عند سماع «الذي» إلى سماع الصلة لأن «الذي» من الأسماء الموصولة بكوْنِ القلوب تحت ستر الغيب فقال‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ‏}‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏‏.‏

خَلَقَ ظلمةَ الليل وضياءَ النهار، ووحشةَ الكفر والشِرْك، ونور العرفان والاستبصار‏.‏

ويقال جَعَلَ الظلماتِ نصيبَ قوم لا لجُرْمٍ سَلَفَ، والنورَ نصيبَ قومٍ لا لاستحقاقٍ سبق، ولكنه حُكْمٌ به جرى قضاؤه‏.‏

ويقال جعل ظلماتِ العصيان محنةَ قومٍ، ونور العرفان نزهةَ قوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

أثبت الأصل من الطين وأدعها عجائب ‏(‏السير‏)‏ وأظهر عليها ما لم يظهر على مخلوق، فالعِبْرَةُ بالوَصْلِ لا بالأصل؛ فالوَصْلُ قُرْبَةٌ وَالأصل تُرْبةٌ، الأصل من حيث النَّطفة والقطرة، والوصل من حيث القربة والنَّصرة‏.‏

قوله ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ‏}‏‏:‏ جعل للامتحان أجلاً، ثم جعل للامتنان أجلاً، فَأَجَلُ الامتحان في الدنيا، وأَجَلُ الامتنان في العُقْبى‏.‏

ويقال ضَرَبَ للطلب أجلاً وهو وقت المهلة، ثم عقبه بأجل بعده وهو وقت الوصلة؛ فالمهلة لها مدًى ومنتهى، والوصلة بلا مدًى ولا منتهى؛ فوقتُ الوجودِ له ابتداء وهو حين تطلع شموس التوحيد ثم يتسرمد فلا غروب لها بعد الطلوع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

وهو الذي هو معبودُ مَنْ في السماء، مقصود مَنْ في الأرض، وهو الموجود قبل كل سماءٍ وفضاء، وظلام وضياء، وشمس وقمر، وعين وأثر، وغيْر وغَبَر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

أي لا يزيدهم كشفاً ولطفاً إلا قابلوهُ جحداً وكفراً، ولا يُولِيهم إقبالاً إلا قابلوه بإعراض، ولا يلقاهم بَسْطًا إلاَّ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ بانقباض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

إنهم أصَرُّوا على الخلافِ مستكبرين، وعن قريب يقاسون وبالَ أمرهم، ويذوقون غِبَّ جُحْدِهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

يعني مَنْ تَقَدَّمَهُم كانوا أشدَّ تمكناً في إمهالنا، وأكثرَ نصيباً- في الظاهر- من أقوالنا؛ سهَّلنا لهم أسبابَ المعاش، ووسَّعنا عليهم أبواب الانتعاش، فحين وَطَّنُوا على كواذب المنى قلوبَهم، وأدركوا من الدنيا محبوبهم ومطلوبَهم فتحنا عليهم من مكامن التقدير، وأبرزنا لهم من غوامض الأمور ما فزعوا عليه من النَّدّم، وذاقوا دونه طعم الألم‏.‏ ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين، وأورثناهم مساكنهم، وأسكناهم أماكنهم، فلمَّا انخرطوا- في الغيّ- عن سلكهم، ألحقناهم في الإهلاك بهم، سُنَّةً منا في الانتقام قضيناها على أعدائنا، وعادةً في الإكرام أجريناها لأوليائنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يُخْبِرُ عن كمالِ قدرته في إبداء ما يريده بعد ما قَضَى لهم الضلالَ، فلو أشهدهم كُلَّ دليل، وأوْضَحَ لهم كل سبيل ما ازدادوا إلاّ تمادياً في الضلال والنفرة، وانهماكاً في الجهل والغيّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

بيَّنَ أَنَّ العبرة بالقسمة دون الاعتبار بالحجة، وما يغني السراج عند مَنْ فَقَدَ البصر‏؟‏ كذلك ما تغني الحجَجُ عند مَنْ عدم عناية الأزل‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

مَنْ لم يُقَدِّسْ سِرَّه لَبَّسَ عليه أَمْرَه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

أي سَبَقَكَ- يا محمد- مَنْ كُذِّب به كما كُذِّبْتَ، فحقَّ لهم نصرنا، فانتقمنا ممن ناؤوهم، فعاد إليهم وبالُ كيدهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قُلْ دوخوا في الأرضِ، وسيحوا في سيركم فيها من الطول والعَرْضِ، ثم انظروا هل أفْلَتَ من حكمنا أحدٌ، وهل وجد من دونَ أمرنا مُلْتَحداً‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

سَلْهُم هل في الدار ديار‏؟‏ وهل للكوْنِ- في التحقيق- عند الحق مقدار‏؟‏ فإنْ بقوا عن جوابٍ يَشْفِي، فَقُلْ‏:‏ الله في الربوبية يكفي‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏‏:‏ أخبرَ وحَكَمَ وأرادَ على حسب ما عَلِمَ، فَمَنْ تَعلَّقَ بنجاته عِلْمُه سَبَقَ بدرجاته حُكْمُه، ومَنْ عَلِمَهُ في آزاله أنه يَشْقَى فبقدر شقائه في البلاء يبقى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

الحادثاتُ للهِ مِلْكاً، وباللهِ ظهوراً، ومِنْ اللهِ بدءاً، وإلى اللهِ رجوعاً‏.‏ وهو ‏{‏السَّمِيعُ‏}‏ لأنين المشتاقين، ‏{‏العَلِيمُ‏}‏ بحنين الواجدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏‏.‏

أَبَعْدَ ما أكرمني بجميل ولايته أتولى غيره‏؟‏ وبعد ما وَقَعَ عليَّ ضياءُ عنايته أنظرُ في الدارين إلى أحد‏؟‏ إنَّ هذا محالٌ في الظنِّ والتقدير‏.‏

قوله جلّ ركره‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏}‏‏.‏

له نعتُ الكَرَمِ فلذلك يُطْعِمُ، وله حقُّ القِدَمِ فلذلك لا يُطْعَمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

أي إنِّي بعجزي متحقق، ومن عذاب ربي مُشْفِق، وبمتابعة أمره مُتَخَلِّقٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

من أدركه سابقُ عنايته صَرَفَ عنه لاحِقَ عقوبته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

إنَّه مَنْ ينجيك من البلاء، ومن يُلقيك في العناء‏.‏ وإذ المتفرِّد بالإبلاغ واحد فالأغيارُ كلُّهم أفعاله؛ وإن الإيجاد لا يَصْلُحُ من الأفعال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

عَلَتْ رُتبةُ الأحدية صفةَ البشرية، فهذا لم يزل لم يكن فحصل‏.‏ ومتى يكون بقاء للحدثان مع وضوح سلطان التوحيد‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

غلَبَتْ شهادة الحق- سبحانه- كلَّ شهادة، فهم إذا أقبلوا يشهدون فلا تحيط بحقائِقِ الشيء علومُهم، والحقُّ- سبحانه- هو الذي لا يخفى عليه شيءٌ، ثم أخبره- صلى الله عليه وسلم أنه مبعوثٌ إلى الكافة ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

أحاط علمُهم بصدقِ المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في نُبوَّتِه، ولكن أدركتهم الشقاوة الأزلية فعقدت ألسنتهم عن الإقرار به؛ فجحدوه جهراً، وعلموا صِدْقَه سِرًّا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

شؤم الخذلان بلغ بالنكاية فيهم ما جرَّهم إلى الإصرار على الكذب على الله تعالى، ثم لم يستحيوا من اطلاعه، ولم يخشوا من عذابه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

يجمعهم ليوم الحشر والنشر، لكنه يفرقهم في الحكم والأمر، فالبعث يجمعهم ولكن الحكم يفرقهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

هذا الذي أخبر عنهم غايةُ التمرد؛ حيث جحدوا ما كَذبُوا فيه وأقسموا عليه، ولو كان لهم بالله عِلمٌ بأنه يعلم سِرَّهم ونجواهم، ولا يخفى عليه شيءٌ من أُولاَهم وعُقباهم، لكن الجهل الغالب عليهم استنطقهم بما فيه فضائحهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

هذه كلمة تعجب؛ يعني إنَّ قصتهم منها ما هو محلُّ التعجب لأمثالكم‏.‏